ولدت المقاومة الوطنية اللبنانية مع تصاعد الاحتلال الإسرائيلي عام 1982، حيث كانت عملية الشهيد أحمد قصير في صور أولى العمليات الاستشهادية التي هزّت العدو. تبعتها سلسلة عمليات نوعية واستشهادية أدت إلى انسحاب تدريجي من الجبل والجنوب، حتى استقر الاحتلال في الشريط الحدودي. وفرضت الميليشيات المتعاملة مع الاحتلال سياسات قمع وابتزاز وتهجير ضد السكان، خاصة في بلدات كعيناثا وبنت جبيل، لإحداث تغييرات ديموغرافية. ومع تصاعد العمل المقاوم، بدأت إسرائيل تخسر سيطرتها، فتفككت الميليشيات وانسحب الاحتلال في 25 أيار 2000 تحت ضربات المقاومة، في تحرير وطني لم يشهد انتقاماً بل طغى عليه الوعي الوطني والتسامح، مؤكداً على دور المقاومة كقوة جامعة لكل اللبنانيين. كان لعيناثا نصيب من تقديم عدد من ابنائها شهداء خلال عمليات المقاومة في سبيل الدفاع عن الأرض، فاستشهد شهيدان عام 1987 وواحد عام 1997، وآخر عام 1999 وهم عباس نعمة، يوسف نصرالله، غسان غانم، وأحمد فضل الله. ن
وبعد ست سنوات من الهدوء النسبيّ في جبهة الجنوب، اشتعلت الجبهة مجددًا، فسقط عدد من الشهداء، وكن لهم نصيب الدفن في البقعة نفسها التي دفن فيها أول 3 شهداء، حيث شُيّع المدنيون والمجاهدون ودفنوا جميعًا في نفس البقعة. ومن بعدها نشأت فكرة هندسة مقام خاص ومميز لتكريم هؤلاء الشهداء
في 12 تموز 2006، أشعلت عملية أسر جنديين إسرائيليين التي نفذتها المقاومة الإسلامية قرب عيتا الشعب حرب تموز، فردّت إسرائيل بعدوان واسع على لبنان، مركّزة على تدمير البنية التحتية والقرى الجنوبية مثل بنت جبيل وعيناثا. سعت القوات الإسرائيلية لاجتياح المنطقة مستخدمة قوات النخبة ودبابات الميركافا، بهدف فصل عيناثا عن بنت جبيل، لكنها اصطدمت بشبكة تحصينات أعدّها حزب الله بعد عام 2000 وبمقاومة شرسة تمزج بين حرب العصابات والتكتيك العسكري، ما كبّدها خسائر فادحة. دارت معارك ضارية في كرم الزيتون والسناسل والمطيحنة وصف الهوا، وسط قصف مكثّف حوّل عيناثا إلى ركام، بل تم قصفها وخلّف مجازر بحق المدنيين. و
خلال حرب تموز استشهد في عيناثا 24 مدنيًّا، بينهم نساء وأطفال، وعرفت أكبر مجزرة في عيناثا بال18 مدنيًّا الذين استشهدوا في منزل الحاج محمد علي مصطفى بعد أن لجأوا إليه هربًا من القصف، فعمد الاحتلال إلى استهدافه عبر طائرة تجسس وطائرات حربية دمّرته بالكامل، وبقي الضحايا تحت الركام حتى وقف العدوان. كان لافتًا أن احدى النساء وهي تدعى زهراء فضل الله قد كتبت وصيتها في الملجأ، شاعرةً بدنو الشهادة. يروي أحد أصحاب المنزل في وصفه حينها: "كان منزلنا عبارة عن طابق واحد كبير وأرضية لتخزين المونة، كانت غرفة كبيرة دون نوافذ، أي دون مصدر للضوء. عندما بدأت الحرب، لجأنا إليها، كان هناك باب من داخل المنزل يوصل إليها، فكنا نستخدمه إذا أردنا أن نحضر شيئًا سريعًا من المنزل ونعود مباشرة إلى الأرضية. كان المكان كبيرًا لكنه معتم، كنا نستخدم بطاريات شخن للاضاءة، ولما انتهت خدمة البطاريات استخدمنا الشموع. وعند اشتداد القصف خرجنا من البلدة. وبعد خروجنا، لجأ إلى المنزل حوالي ال20 شخصًا من بينهم رجال ونساء وأطفال، وسكنوا في المكان نفسه دون اللجوء إلى الطابق الأول، فقط للضرورة، ولحساسية الوضع الذي كان، كان لا بد من إبقاء المنزل دون اضواء. ولكن بالرغم من كل ذلك قام العدو باستهداف المكان واستشهد جميع من كان فيه، وبقي ما تبقى من الجثامين تحت الردم حتى انتهاء الحرب، ولم يبق شيء من المنزل. وبعد العودة مباشرة، عمل المعنييون على إزالة الردم وانتشال الجثامين، ومن ثم تم تشييعهم ودفنهم." و
يتميز شهداء معركة الدفاع المقدس بأنهم كانوا مندفعين، مؤثرين، فعالين في مجتمعهم، بالإضافة إلى الإيمان والتدين، بالإضافة إلى تواصله مع الناس أي ليس منغلقًا، بعبارة أدقّ، بحسب وصف الشيخ عباس "هو متديّن فعّال، حاضر في الجبهات، حاضر في أماكن الحاجة والمجتمعات". هؤلاء الشباب أثروا على الشباب الآخرين، من خلال إحضارهم إلى المساجد، ومساعدتهم في التقرب إلى الله. شهداء الدفاع المقدس دخّلوا شبابًا إلى العمل المقاوم الذين استشهد بعضهم لاحقًا، ومنهم من لا زال يكمل الدرب ويواصل المسير. و
بعد عملية "طوفان الأقصى" التي نفذتها حماس في 7 تشرين الأول 2023، فتح حزب الله جبهة إسناد ضد الاحتلال الإسرائيلي دعماً لغزة، بدأها في 8 تشرين الأول بهجمات على الحدود، واستمرت لأكثر من عام قدّم خلالها الحزب مئات الشهداء. قدمت عيناثا في جبهة الاسناد 7 من أبنائها. و
أول شهيد كان الشهيد عباس السوقية (علي الهادي) الذي استشهد بتاريخ 22 – 10 – 2023 ، فكان أول شهيد يشيّع ويدفن في روضة الشهداء من بعد آخر شهيد دفن عام 2017. "الشهيد السعيد عباس السوقية.. أول قافلة العشق في عيناثا.. في عيناثا، حيث الجراح تفتح نوافذها على الشمس. شيّعت البلدة أوّل شهدائها في معركة "طوفان الأقصى"، وكان التشييع أكثر من وداع، كان إعلان ولادة عصر جديد من المجد والوفاء. منذ العام 2017 لم يخرج الناس لهكذا مناسبة.. خرج الناس كما لم يخرجوا من قبل، لا لتوديع جسدٍ إلى الثرى، بل لاحتضان روحٍ فتحت للموت باب الكرامة. امتزجت الزغاريد بدمع الصبر، وارتفعت الأكفُّ كما تُرفع البيارق في المعارك. كان الهواء مثقلاً برائحة التراب المقدّس والدم الحي، وكأنّ الأرض نفسها وقفت على أطرافها تستقبل القادم الأوّل من قافلة العائدين إلى الله.. مشهد التشييع لم يكن لحظة عابرة.. بل ميثاقاً جماعيًّا.. كل من حضر، كتب روحه على ورقة الاستعداد، فتتابع الشهداء من بعده كما تتتابعُ قطرات الضوء حين ينفتح الغيم.. أتى الشهيد الأوّل كأنّه النذير الجميل، جاء ليوقظ البلدة من سبات القهر، فاستفاقت عيناثا بكلّها، ومشت خلفه برجالها، بنسائها، بشيوخها الذين يعرفون طعم الوداع، وبأطفالها الذين حفظوا الأسماء دون أن يروا أصحابها إلا على جدران الذاكرة.. والعجيب أن معظم الشهداء الذين لحقوا به كانوا في التشييع، وقفوا هناك، في الصفوف الأماميّة، يحملون النعش والدمعة الأخيرة، يتبعها ابتسامة.. كأنّهم في وداعه، كانوا يودّعون أنفسهم دون أن يشعروا.. بعد حين: هذا الذي حمل النعش حمل اسمه بعد أيام، وذاك الذي وزّع الورد، وزّع دمه في نفس المكان.. كان التشييع مهيبًا لأنّه لم يكن ختامًا، بل افتتاحًا.. كان بداية مشوار جماعيّ إلى السماء، مشهدًا سرمديًّا علّق الزمان على كتف الزمان، وعلّم الناس أن الشهادة ليست نهاية، بل لحظة يتقدّم فيها إنسانٌ ليقود قومًا إلى الخلود." هذا ما كتبه علي خنافر حين سألته عن وصف يوم التشييع ذاك فكان رسمًا لمشهد تجدد بعد 7 سنوات في هذه البلدة، ليكون افتتاحًا لآخرين اتخذوا الطريق نفسه. و
ومن بعدها قدمت
عيناثا عددًا من الشهداء في الفترة الممتدة من جبهة الاسناد إلى ما قبل اشتداد
الحرب في 23 أيلول وهم: و
و- محمد باقر حسّان
بسّام (خميني) - في مارون مفقود الأثر
و- عبد الكريم
سمحات (جعفر) – في مارون
و- ومحمود إبراهيم
فضل االله (شادي) – اغتيال في الشهابية
و- الشهيد مهدي
عباس سمحات (جواد معتوق) – في حداثا في مجزرة تفجير أجهزة البيجر
و- علي محمد سليمان
سمحات (كاظم) - في مجزرة تفجير أجهزة اللاسيلكي بعد تشييع الشيهد مهدي
أما عن آخر شهيد شيّع في الروضة بحضور أهالي البلدة، فكان الشهيد الحاج جهاد شفيق خزعل خنافر (الحاج زهير)، الذي استشهد بتاريخ 20 أيلول 2024 في ضربة منطقة القائم – الشهيد عبد القادر، فكان ذلك بتاريخ 21 أيلول، حيث اجتمع الناس حينها في البلدة برغم كل الظروف المحيطة، وكان مشهدًا كبيرًا وعجيبًا. ويومها، لم تهدأ أصوات الطيران الحربي والمسيّر، وفي أثناء توديع الشهيد في مسجد البلدة، قام الطيران الحربي بتنفيذ غارة في إحدى مناطق عيناثا على التل المقابل للمسجد مباشرة، فما كان من أبناء الشهيد والمودعين إلا رفع الأيادي والهتافات بأن "لبيك يا حسين، وهيهات منا الذلة"، فتغير شكل المشهد أكثر، وتغيرت دموع الحزن إلى مواقف صبر وثبات.. و
ثم شهدت المواجهة
تصعيداً خطيراً في الجنوب بتاريخ 23 أيلول 2024، واشتعل القصف على كل الجنوب منذ ساعات الصباح
الأولى، ونزح الجنوبيون يومها إلى مختلف المناطق وبقي عدد من الشباب في قراهم
ليحموا أرضهم ويردوا أي اعتداء. و
عند فجر 25 أيلول، وبعد نزوح معظم الأهالي من بلدة عيناثا، ومع اشتداد
القصف، استشهد شابان وهما حسين محمد بيضون وعلي أحمد بسّام، وتم دفنهما مباشرة في
الروضة دون تشييع أو حضور كبير للأهالي. يروي والد بيضون وهو متطوع في فوج الهيئة
الصحية في عيناثا، عن ذلك اليوم: و
و"استشهد حسين وعلي في 25 أيلول فجرًا حوالي الساعة 3:30. في اليوم
السابق قاما بزيارتي في المستشفى، ودّعاني وذهبا إلى العمل وكأنهما أحسا أنها
الساعات الأخيرة. في يوم الدفن، كنا حوالي الخمسة عشر أو ستة عشر شخصًا فقط، أنا
ووالد الشهيد علي، والشيخ عباس إبراهيم، والحاج غانم، وعدد من شباب الهيئة الصحية،
ولا ننس شباب كشافة الرسالة الذين ساعدونا أيضًا، كما وقد حضر عدد من الشباب الذين
استشهدوا فيما بعد." و
وفي اليوم نفسه، استشهد في النبطية الشهيد القائد الحاج فواد شفيق خزعل
خنافر (الحاج مازن) والذي التحق بأخيه الشهيد جهاد بعد خمسة أيام مباشرة، ودفن
وديعة في بيروت، فكان أول الودائع من أبناء البلدة، إلى حين العودة والمشاركة في الشتييع الكبير. و
ومع استمرار القصف في الجنوب كانت عيناثا تقدم شبابها واحدًا تلو الآخر ويومًا بعد يوم، إن كان في عيناثا أو خارجها، وكانت تُنقل جثامين الشهداء إلى أماكن مختلفة، أقل خطرًا من عيناثا، وكانت تدفن ودائع إلى حين انتهاء الحرب والعودة إلى عيناثا، وتكريم هؤلاء الشباب بتشييع مهيب. و
وبعد انتهاء الحرب، وإعلان وقف اطلاق النار عند الرابعة فجرًا في 27 تشرين
الثاني 2024، عاد الأهالي مباشرة إلى البلدة، بعد أن كان معظمهم قد انتظر في خلدة
مع باقي أهالي الجنوب في القرى والبلدات المجاورة.
ومن اللحظة الأولى، بدأت عمليات إزالة الردم وفتح الطرقات وانتشال
الجثامين. يروي أحد الشهود عن تلك الساعات الأولى: "عند الرابعة فجرًا، كنا
في خلدة ننتظر إعلان وقف إطلاق النار حتى ننطلق مباشرة إلى عيناثا. عندما وصلنا،
كان العمل قد بدأ مباشرة. كانت جثامين الشهداء تمتد على طول جوانب الطريق، من مدخل
عيناثا حتى وسطها، وكان الشباب يقومون بعملهم على أكمل وجه. لقد انتشلت جثامين لشهداء
من عيناثا ومن خارجها، من القرى المجاورة ومن البقاع حتى، لقد لوحظ وجود أمهات
وأهالي من البقاع في عيناثا بحثًا عن أي أثر من أبنائهم." و
ثم انتقل العمل لإزالة الردم عن روضة الشهداء، وإزالة القبة الزرقاء التي
هوت بالكامل على الأرض وانتشرت أجزاء كثيرة منها في المكان. ثم جرت محاولة البحث
عما تبقّى من القبور، والعمل على محاولة ترميم المشهد بشكل أوليّ حتى تنتهي فترة
هدنة الستين يومًا وتستكمل الأعمال لإعادة تغيير الشكل والتحضير للتشييع الكبير. و
بعد فترة هدنة الستة وستين يومًا، بدء العمل على تحسين شكل الروضة المدمّرة
وتوسيعها بعد أن كانت قد امتلأت بكل شهدائها السابقين، فكانت التحديات بعد العودة
إلى البلدة كالتالي: الكشف على حجم الأضرار الناتجة عن هذا الدمار، والبحث عن القبور وترميم ما يلزم منها، ومن ثم التخطيط لتوسيع المكان ودفن الشهداء الجدد. و
كل هذا يحتاج إلى تصميم وجهد كبير للترميم ولإلحاق الأرض بالروضة، فتوزعت
الخطوات بعدها كالتالي: إزالة الركام، تحديد القبور القديمة، توسيع الأرض، بناء
الجدران، وحفر القبور الجديدة وبنائها. و
في هذه الفترة، نقل عدد كبير من الودائع إلى عيناثا ودفنوا وديعة مرة أخرى في جبانة البلدة وصار الأهالي يقومون بزيارتهم وإحضار الورد إلى هناك. كما ودفن بعض من شهداء القرى المجاورة في جبانة بلدة عيناثا، لأنها لم تكن بلدات محررة بعد مثل عيترون ومارون الراس. و
وفي الوقت الذي كانت تسير فيه تحضيرات الروضة، كان فريقٌ آخر يقوم بتحديد تحضيرات التشييع المبارك. وبعد أن صارت الروضة جاهزة، تحدد موعد التشييع. بلغ عدد الذين سيدفنون في روضة شهداء عيناثا 30 شهيدًا من بينهم شهيدة مدنية_وهي أخت لشهيد في العام 2017_ و
حدد يوم 22 شباط 2025 يوم تشييع وتكريم شهداء البلدة. بدء العمل قبل عدة أيام من الموعد باحضار باقي الشهداء من أماكن ودائعهم، ثم قبل يوم من تشييع الشهداء عمل المعنييون على ترتيب كل ما يلزم من تنظيم مكان لمراسم وداع الأهالي لأبنائهم وآبائهم، وإلى تنظيم مكان المراسم والتشييع. و
بزغ فجر يوم السبت، أذكر أنني لم أنم ليلتها. كان الموعد المحدد لبدء مراسم الوداع عند الساعة التاسعة صباحًا، فعدنا إلى المكان نفسه، لكن المشهد اختلف اليوم أكثر، كل النعوش باتت محاطة بأهلها وأحبائها، كل العيون غارقة بالدموع، نويح وصراخ الأمهات يعلو من كل مكان، إنه الفقد والحزن المشترك بين الجميع. لم تكن القصة أن أبًا فقد ابنه فقط، أو أن ابنًا فقد أباه وحده فقط، بل كان المشهد أكبر من ذلك، كانت عيناثا يومها تعيش حزنًا واحدًا، فقدًا ووجعًا واحدًا. أدركنا حينها أننا كلنا فقدنا أحبابنا. لم تتوقف الدموع حينها من عينيّ أحد، لم تختفِ الأحضان، ولا حتى عبارات المساواة. لا يغيب عن بالي مشهد مواساة يومها، كنت مع زوجة شهيد مفقود للأثر أدلها على زوجات الشهداء اللواتي تسألني عنهن، فما كان منها إلا حين رأت إحداهن أن حضنتها وبدأتا بالبكاء. تقول زوجة الشهيد الذي في النعش: "واسيتك، الحمدلله، وجعنا صار واحد، بس انت أصعب مني، زوجي قدامي بس زوجك لا، ما عارفة كيف بدنا نوافيك!". فما كان منهما الا ابتسامة حزينة، وحضن جديد، وعبارات مواساة وتصبّرٍ وحمد. لم يتغير المشهد على مدار ساعتين من الوداع، كيفما تجول بين التوابيت، ترى المشهد نفسه بوجوه محتلفة. عائلة تبكي فقدها، أولاد يبكون يتمهم، أم تبكي فلذتها، شباب يبكون أصدقاءهم، كل عيناثا تبكي أبناءها، كان الأمر يبدو حينها كالفراشات التي تطوف حول النور، كالفراشات التي تطوف بهذه الكلمات وصف الشيخ عباس المشهد. ا
ومن تلك القاعة المغلقة، انتقل الشهداء على سيارات مزينة ومخصصة تليق بهم، إلى منطقة دوار الشهيد صلاح غندور، هذا الدوّار الذي ارتقى عليه ما يقارب السبعين شهيدًا. على تلك النقطة، نفذ الشهيد صلاح غندور عملية استشهادية عام 1995، ومن هناك انطلق التشييع، برسالة وصفها الشيخ بأن يا شهيد صلاح دماؤك وأشلاؤك أثمرت، هذا زرعك أينع، أينع شهداء، أينع انتصار، أينع عزّة، أينع كرامة، وهؤلاء الشهداء اليوم سيبدؤون تشييعهم من النقطة التي ارتقيت فيها، حتى يلتقي الجيل مع الجيل، أي أن هذه المقاومة هي مقاومة الأجيال، مقاومة لا تتعب، لا تستسلم ولا تنهزم أو تتراجع، الجيل يسلّم الجيل الذي بعده. وانطلق موكب التشييع ليصل إلى النقطة المحددة، والرسالة هنا أيضًا كانت من الشيخ تشيير إلى رمزية حمل النعوش في باقي الطريق، لتكون متعمّدة بهدف الوصول إلى الروضة وهم على أكتاف المحبّين، وكأن لدينا بحرًا من الناس، وفوق هذا البحر نعوش صفراء، وهذه الصورة متعمّدة أيضًا لترسم في ذهن الصغار والكبار. بهذا المشهد وصلت النعوش إلى المنصّة. و
و "اعذروني يا أحبتي، فاليوم يوم وداع، عيناثا يا حاضرة جبل عام، يا بلدة العلماء والشهداء، يا بريق النجوم في السماء، وإشراقة المجد في التلال العاملية.. عيناثا قومي واحضني أجسادًا من تبرٍ حيدري، ورجالًا ما هان عليهم نوح الثواكل، ولا هانوا يوم اشتد النزال.. عيناثا قومي ولملمي أشلاءً تطايرت عشقًا وفداءً لمحمد صلى الله عليه وآله، ودمًا عبيطًا سفك في محراب مسجد الحسين عليه السلام، اليوم نجمع كل الرؤوس التي رفعتها رماح الصهاينة.." ببعض من هذه الكلمات رثى علي خنافر كل شهدائنا، وحمل بين طيات كلماته بعضًا من بطولاتهم، وبعضًا من أشواقنا وبع ضًا مما في قلوبنا. و
انتهت الكلمة وأودّي القسم، فاصطفّ المحبون رافعين النعوش على الاكتاف في صف منتظم، وكأن كل شهيد منهم، ينتظر دوره للدخول إلى الروضة. ووصف الشيخ هذا الاصطفاف، بأنه انتظام لحياتنا لكن على طبق بوصة هؤلاء الشهداء.. و واستقرت الجثامين كلُّ في مكانها، وصار هذا المكان ملجأً وأنسًا جديدًا ازداد بأفراده وروّاده، وصار البداية والنهاية لكل شي في هذه الحياة، ومنه تنطلق كلّ الأيام. و
وبعد مراسم التشييع والدفن، استكمل العمل على الروضة لتغيير شكلها وتزينها بما يتناسب مع تكريم هؤلاء الشهداء، فعمل المعنيون على تعليق الصور، ترتيب المكان، وزرع الورود، لتعود أجمل مما كانت.. و